الرئيسية » » رحلة أركمان:بقلم نوال ثاشبذانت

رحلة أركمان:بقلم نوال ثاشبذانت



رحلة أركمان:بقلم نوال ثاشبذانت

_ هذه قرية أركمان الجميلة .. هنا تكونت أول جبهة لمقاومة الاستعمار البائد .. من هناك زحف عبد الكريم وجيشه مدججين بالبنادق وأوقعوا ثكنة العقيد "ميشيل " في كمين لم يسلم منه أحد من الكفار .. قالها بحماسة وفخر وهو يشير بأصبعه خارج زجاج النافذة الجانبية كطفل ..
تأمل مراد المكان وتصور الحدث فدبت في جسده رعشة غريبة .. تساءل في نفسه عن سر هذه الرعشة هل هي رعشة التاريخ المهيب .. أم هي رعشة الكرامة الضائعة..أم هي رعشة المواطنة ؟ .. ولم يجد جوابا شافيا.. التفت إليها فوجدها غارقة في أفكارها وقد توقفت عن الشدو .. رشف رشفة أخرى ومال على أذنها بخفة .. وهمس :
_ الرحلة مدهشة.. أليس كذلك ؟
ارتبكت حتى تقوس حاجباها.. رمقته بنظرة استغراب .. فتمتم ..
-بحياتي لم أجرب رحلة بجانب فتاة جميلة .. هل تصدقين ؟
تزاحمت الحروف بين شفتيها .. كتمت دهشتها بابتسامة لطيفة غرزت خديها الجميلتين .. ابتسم بدوره .. وتعانق خيالهما مع أغنية جديدة .. مرة أخرى صاح السائق وهو يخبر الطلاب بوصولهم إلى الشاطئ المشهور.. عند الدرج المودي إلى الشاطئ حث مراد خطاه ليلحق برفيقته الرشيقة .. كانت ترتدي تنورة قصيرة وبودي مزركش .. في مكان غير بعيد جلست تتأمل بهجة البحر وعنفوانه .. اقترب منها وجلس بجانبها.. ظل صامتين لبعض الوقت .. لكنها فاتحته قائلة ..
_ تصور .. أول مرة أنفرد فيها برجل على الشاطئ ..
_ هل يعقل ذلك ؟ ..
_ لم يسبق لي أن أحببت رجلا .. ياللغرابة !
_ أحببت مرة واحدة واتضح أني كنت مراهقا لا غير ..
_ هل نسيتها .. ؟
_ طبعا .. كما نسيت مراهقتي ..
_ لماذا لم تحب غيرها .. ؟
_ لم أجد من تفهمني وتحبني لذاتي ..
_ولا واحدة بهذا العالم الفسيح ؟
_أجل .. ولا واحدة ..
_ ما سر الشقراء التي لا تفارقك في باحة المعهد ..؟
_ مجرد صديقة فحسب ..تعرفينني إذن ؟
_ ومن لا يعرف شاعر المعهد المشهور .. ليكن في علمك أني حضرت كل أمسياتك الشعرية ..
_ حقا ؟
_ تعجبني تيمة الحب الطاغية على أشعارك ..
_ ربما أعوض بها عن الوحشة القاتلة بقلبي ..
_ غريب .. شاعر بهذا الجمال واللباقة لم يجد من تحبه ..!
_ لذلك تظل حبيبتي طيفا يراوح كل أشعاري ..
_ إلى متى ستظل تبحث عن هذا الطيف اللعين ..؟
قالتها بعصبية مكتومة وهي تشيح بعيدا بوجهها المعذب ... فيما أردف بنبرة جديدة ...
_ لن تصدقي إذا قلت لك أني وجدتها الآن .. ما ينقصني هو أن تبادلني نفس الشعور ..
_حقا ؟ من هي هذه المحظوظة بنت الأصل ؟
احتقنت أحباله وهو يقولها بإصرار ..
_ أنت يا فتنة الروح .. يا من سهرت الليالي أناجي طيفك الحنون ..
_أنت تعرفني كذلك !
في اشتباك اللحظة بالدهشة وتلاطم المشاعر وانسيابها تقدمت نحوهما طفلة صغيرة .. وصاحت بخفة في وجهيهما ..
_ سمعت كل الكلام ... سمعت كل الكلام
قاطعها مراد محاولا إخماد صياحها ..
_حسنا .. حسنا .. وما رأيك في هذا الكلام ؟ قولي يا حلوة ..
أجابت بصوت واثق ..
_ إنكما تكذبااااااااااااان .
هو الآن جالس على المقعد الخلفي لهذه الحافلة اللاهثة .. يغمره لغط الطلاب وهم يترنمون بأغنيات السفر .. لم يكن سعيدا كعادته وهو يعانق هذه الأمكنة الجديدة .. دفء الجميلات وهن يرقصن في وسط الحافلة لم يحرك عواطفه الفاترة .. أشاح بوجهه إلى الفيافي.. كانت الأكواخ والحقول تشيعه في حركة جنونية دوخت رأسه .. عمق أنظاره بعيدا فرأى جبالا شامخة تستحم تحت طلعة الشمس السخية .. تمنى لو سكنت جسده البارد كأعماق البحر .. أسدل يده في جيبه وأخرج قارورة ويسكي..لملمها في ورق جريدة .. هرق بعضا منها في جوفه بمرارة .. المذيعة ذات الصوت العذب تشرف أسماعهم بتحيتها الصباحية الودودة ;
_ أعزائي المستمعين أسعد الله صباحكم .. هذا يوم جديد أتمنى أن يكون مليئا بالنجاح والإثارة ..
هدأت جلبة الطلاب وتعلقت أسماعهم بالصوت الحميمي ..
_أدعكم الآن أعزائي عزيزاتي مع هذه الأغنية الرائعة ..
وانهمر صوت فيروز مطرابا يدغدغ الأسماع .. "ياجارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام... " شرب وهو يدندن مع النغم الذي سكنه أيام الطفولة .. نظر بعيدا فتراءى له نهر كبير يشق بلدة بئيسة .. تراكض على جانبه أطفال حفاة الاقدام بسحنات بدوية مترهلة.. لم يكترث لذلك .. على المقعد المحادي جلست فتاة لا يعرفها .. كانت تترنح برأسها مستغرقة في دنيا النغم .. التفت إليها .. كانت متألقة كالبدر .. تأمل خديها الطريتين المحتقنتين بالدم .. انعكست حمرتهما على وجهه الأسود الحالك .. تخيل نفسه عنترة العبسي يشق أرض الله ليخوض معركة العمر .. تملكته روح عنترة كما قرأها في الكتب القديمة .. أطل عليها بنظرته الرجولية وقد استجمع فيها مشاعرالفحولة والغرام .. كانت تتغنج في أنوثتها كعبلة تماما أو ذلك ما تصوره .. لما وقعت عيناها عليه دق قلبه بقوة وانخطفت ملامحه .. لم يدر ما يفعله.. فقط ابتسم في وجهها عصارة الجمال الذي يسكن لحظته الجاهلية .. وعادت المذيعة من جديد ..
_يسعدني أن اطلعكم أعزائي على أحوال الجو حسب توقعات الأرصاد الجوية.. عموما ستكون الأجواء مشمسة في كل أنحاء البلا...
لم تثره أخبار الطقس يوما كما لم تثره أخبار الجغرافيا التي تسفح تحت قدميه.. السماء صافية البساط كما رآها من زجاج النافذة .. في الداخل سمع السائق وهو يطلع الركاب على تاريخ إحدى البلدات ..

شارك مع أصدقاؤك :

هناك تعليق واحد:

  1. تعابير في الصميم تجعل القارىء يلهث وراء الإيحاءات الدلالية وجدت متعة لا تضاهى وأنا أحاول الوصول إلى جوهر الضياع العاطفي الذي يشخصه مراد...وأصلي الكتابة....هشام اشبذان

    ردحذف

لا تبخلو علينا بتعليقاتكم هذا ليس امرا وانما تكرما
اكتب تعليقك دون الاسائة الى احد
بعد كتابة تعليقك انضر تحت خانة التعليق (تحديد ملف تعريف)واختر زر مجهول من اجل تسهيل ارسال تعليقك وشكرا

 
تعريب و تطوير : | | عمار نعمة السامر
copyright © 2013. أخبار كبدانة - جميع الحقوق محفوضة
تصميم عمار السامر 07702715540